رواية شئ% – الفصل السادس عشر

الفصل السادس عشر

الفن

 

هُراء.. أحياناً كالآن.. ظاهرياً لا يبدو على ملامحي أي تعبير.. لكن أشعر بأن قلبي يعتصره حزن كل النُبلاء ويتقطع ويتلاشى ويضمحل شيئاً فشيئا.. ودموعي تتسابق بوابلٍ لن ينتهي من دموع قهر الرجال.. وكل حواسِّي تقول: لا تفرح ولا تحزن فالحُكم قائمٌ عليك شِئت أم أبيت إلى أن تموت.. وصدى بداخلي تعبوه صرخات ليس كمثلها صرخات إن واقع كياني يتعذَّب وكأن اللارحمة تنتقم منه.. كمصاصين الدماء عندما يرون إنسان لم يتم إستهلاكه منهم, في ريعان شبابي.. عندما كنت بذروة النعم.. كانت حياتي لها جانب حافِلاً بالنشاطات التي تمد الجسد بكل ما يشاء.. كانت لوجودي زاوية قلَّ من يمكنه رؤيتها لأنها فريدة ولا يمكن إلا لمن لديه حس فنِّي تذوُّق روعتها.

 

فن تشكيلي

بدأ ذلك بهواية الرسم عندما كنت صغيراً كان بالنسبة لي كلُّ المستحيلات أن أرى ورقة وقلم ولا أرسم بهما.. وأشخبط.. كانت الألوان أينما تواجدت يسحرني منظرها.. وكل ما كانت منسقة كان ذلك يعود عليَّ بتعويذة أقوى سحر تأسرني لكي أبقي عيني مستمتعة دون حتى أن أرمش, كنت أرسم كثيراً.. لم أكن أمتلك موهبة.. كانت هوايه لكن بشغف.. كنت فعلا أحب الرسم والتلوين خصوصاً في التظليل أحب إستخدامه وأتقن التلوين به.. وكل ما أسمعه إطراء يؤكد إتقاني له بدرجة مُرضِية.

كنت أرى بالفعل أن الرسم يُعبِّر عن مكنوني الروحي.. كنت بالفعل أحب طقوس الرسام, ويوماً ما إختارني مدرس الفنيَّة لكي أشارك في مسابقة فنيَّة.. أعتقد بأنني جئته برسمةً إستغرقت أربع أيام لأنهيها.. ثم سلمتها للمدرس.. ودعوت الله أن أربح الجائزة الماليَّة الخاصة بالمسابقة.. الله أعلم ما حدث وكيف ومتى.. لكن المدرس في حصة الفنية أخبرني بأن لجنة تحكيم المسابقة غير مصدقين بأن من رسم تلك الرسمة هو شخص بعمري !! ومذ ذلك الحين إعتزلت الرسم.. ليس مطلقاً لكن كان ذلك الموقف مُمهِّد لإنقطاعي التام عن تلك الهواية.

 

فن موسيقي

أحد الأيام كنت أجلس في صالة المنزل الذي أعيش فيه.. وجاء أخي حاملاً شنطة قيثارة.. كنت لم أرى في حياتي قيثارة بشكل مباشر.. كانت بالنسبة لي آلة موسيقيَّة فقط لا أكثر.. وعندما أخرج القيثارة من الشنطة وبدأ يعزف بها كان عزفه بالنسبة لي مخرجاً من كل شوائب الحياة.. وعقلي وكأن صدمة كهربائيَّة إعترته وبدأ يرسل لكل أنحاء جسدي أن هذه الآلة لي وأنا لها.. تماماً كما ينبض قلبي ويرسل الدماء لجميع أجزاء جسدي.

وتعلمت على يد أخي الكبير.. ربما تعليمه كان كدراسة عسكريَّة.. لكن لم أكن ألومه لأنني أعرف مردود المرارة التي عاشها والتي لا تختلف كثيراً عن ما تذوقته في حياتي, لقد كنت بحاجة لتلك الدروس التعليميَّة في طريقة العزف على القيثارة.. كان تعليم أخي كما علمه مدرِّس العزف.. لقد تعلمت كل شئ.. كيف أمسك القيثارة.. وكيف أجلس وأمسكها بالطريقة الصحيحة.. وكيف أعزف.. وكيف يجب أن يكون صوت عزفي.. وماهي جميع "كوردات" القيثارة.. وكيف أقرأ النوتة الموسيقيَّة.. وماهي جميع اللمسات التي يمكن للعازف إضافتها في عزفه.

وبعد أن أتقنت كل شئ.. أطلقت سراح عناني المرهف وبدأت أعزف مقطوعات خاصة بي ليس ألحاناً لأغاني معروفة يستطيع أي مستمع معرفة وحيُها, كانت أغلب ألحاني الخاصة أدمج فيها اللون الأسباني واللون الفرعوني.

لم يطمئن كياني ويرتاح ويتوقف عن الإبتكار بالقيثارة إلا عندما حدثني أخي الذي يكبرني بالقليل أن عزفي مميزاً.. وليس كعزف أبناء عماتي.. فأخبرته بأن العزف ليس كل عازف يتقنه.. وأن معرفة كيفيَّة العزف ليست كافية أبدا ليكون العزف بذلك الحس الفني العالي.. وأن ما يسمعه العازف يختلف تماما عن ما يسمعه الجمهور.. فالعازف كلما أتقن المقطوعة كان ذلك بمثابة التعبير اللفظي عن المشاعر.. فكلما كان شعوره مرهف سيتقن العزف أكثر.. ولا يرضى بسماع شئ إلا يجبر حروح روحه أكثر.. فالموسيقى ليست هي مجرد لحن تتذوَّقه حاسة السمع.. 

 

فن أدبي

في الثامن أو التاسع عشر من عمري إستمعت لقصائد شاعر مشهور في الوسط الأدبي.. وما شهره قوة إلقائه المعبِّرة.. فكان يُلفت كل الإنتباه.. كان يُحسد على إلقاءه.. وكلمات قصائده تعبِّر عن واقع أعيشه وكنت قليل خبره في التعبير عن مشاعري.. فكان ذلك الشاعر السبب الرأيسي لدراسة كيف أكون مثله ليكون لي بصمة على قلوب الجمهور كما كانت له بصمة أثرها إلى اليوم لا يزال مصقول, لقد كان الشاعر هو سبب محبتي للشعر.. كانت فطرتي في ذاك الوقت في ذروة عمرها.. فتُميِّز.. وتختار.. وتتذوَّق.. وتُفرِّق.. فحينها كانت كل قصائدي وليدة الفطرة.. دون معرفة أي أمر عن كيفيَّة كتابة قصيدة.. كنت في حيِّز كتابة الملاحظات في جوالي أكتب قصائد عفويَّة.. كنت لا أتوقف عن الكتابة.. ومجرد كتابة حرف.. يسترسل فؤادي في كتابة قصائد مكتملة حسب خبرتي التي لا تمثل شئ من خبرة شاعر.. لكن ما قادني للإستمرار في ذلك أن خيالي هو مصدر كل شئ.. فدون أي إجتهاد ترُصُّ الكلمات نفسها لكي أكتب قصيدة مكتمله حسب خبرة خيالي, بالإضافة إلى ذلك أنني قلت لأخي الذي يكبرني بسنة ما يحدث لي.. فقال: هذه صفات الشاعر الحقيقي.. إلهامه هو ما ترتكز عليه قصائده.. وليس الذي يرتِّب الكلمات بإرادته كما يشاء.

مسيرة تعلُّم الشِعر كانت أيامها من أجمل أيام حياتي حتى اليوم, إستمرَّت المسيرة قرابة السنتين.. حدث الكثير في تلك الفترة.. كانوا أصدقائي الشُعراء لا يعلموني الشعر فحسب.. بل كانوا يمنعوني من كتابة قصائد لأشخاص معاصيهم بواح.. كنت ولازلت إلى اليوم أرى أن ليس لهم حق في ذلك.. لأنني أتذكر كم كتبت قصائد هدفها الإصلاح والتراجع وترك بعض المعتقدات الجاهِلة.. فأكتب قصيدة وأعرضها على الشعراء.. في البداية لا يجيب أحد والجميع في حالة صمت لثواني.. يكمل الجميع صمتهم إلا أقرب شاعر لي.. كان يُجنِّبني النصيحة ويعلمني أن من أكتب لهم قصيدة سفهاء القوم.. وعليَّ كشاعر أن لا أقلل من قيمتي بمخاطبة قوم قليلين خبرة في الحياة.. ليس عليَّ محاولة حل قضيتهم.. لأنهم سفهاء.. لم أكن مقتنعاً بذلك الرأي مطلقاً.. ربما لأني كنت شاعر تعلم للتو كيف يكتب قصيدة.. أو ربما لأن مَن أكتب فيهم فقراء كحالي وكتابة قصيدة فيهم تقليل من شأن الشاعر !!, كانت أجمل أبيات كتبتها في حياتي في مرحلة علاقتي العاطفية الأولى.. وأتذكر بعض الأبيات التي عند سماعها من بعض الأصدقاء يقسمون بأن إسمي الجديد في هواتفهم النقالة سيكون "الشاعر".. وبعضهم ينتقدني برفق ويقول: ألا تعتقد بأن قصائدك فيها شئٌ من الشِرك !؟, إلهامي لم يكن بإختياري.. لقد كنت أعبر عن مشاعري الفائضة بأبيات تمزج العاطفة حتى بالدين.. لكنِّي لا زلت مؤمن بأن شئاً كتبته لم يكن يتضمن أي خروج عن تعاليم ديني.. لا أستطيع ذكر أي كلمات كتبتها.. تحاشياً لجرح أي مشاعر.

 

LIBS

أَوَآنُ..الآنْ...!!

اترك تعليقاً